هذه قصة من الواقع
*****************
الحب هو اللحظة المباركة, حيث توقظ الانسان الكامن في اعماقنا, فنمتلئ حيوية وبهجة وحبورا انه الإكسير السماوي الذي تقدمه لنا العناية الإلهية كي نشعر بقيمة الحياة,
انه الفرح الذي نتغذى به فينقلنا من حال إلى حال, وهو الحب الذي يتجوهر بالاشياء الكامنة في العناصر والتفاصيل ومادة لذته والذي يظل مختبئا عادة في حاضر تعجز الحواس على التقاطه وماض يجففه الذكاء ومستقبل تبنيه الارادة بشظايا من الاثنين اللذين تجردهما أيضا من حقيقتهما كي لا تحتفظ منهما إلا بما يتلاءم والروح والاحاسيس.
الحب هو الصوت الذي نسمعه بقلوبنا وضمائرنا رائحة طيبة نتنشقها بملء حنجرتنا ورئتينا كما لو اننا نتنشق دفعة واحدة كل عطور العالم وكل أريج الزهور وفي الحب يزكي فينا حب الحياة والوجود والناس , كن جميلا تر الوجود جميلا مقولة صحيحة مئة في المئة.. والحب وحده يجعلنا جميلين وسيمين انيقين نظيفين والحب يكشف لنا ما هيات الاشياء المحتجبة وفي كل هذه اللحظات يتيح لنا الحب.أن نرى بعين الجمال في مثل هذه اللحظات نرى العالم بكنوزه الدفينة فإذا به حافل بالمادة الشعرية ويصبح جديرا بالوصف وان نعيشه بكل امتلاء. عندئذ فقط يجب ان نكون على استعداد لتلقي عطاياه.. وفي المحصلة الحب ليس عارا.. فمن يمتلك الحب فليصرح به, ان تقول لإنسان انك تحبه فهو ايضا يكتشف ان يحبك ما تحبه فيه. لكن احيانا ينقلب القدر على الحب فيتحول إلى مأساة,إلى احباط, إلى معاناة رهيبة مرات تؤدي إلى العزلة وأحيانا إلى الجنون وكثيرا إلى الموت.
كان عبد الحميد يعمل عجانا في فرن والدي لصنع الكعك والحلويات وخبز رمضان كان رجلا فتيا رياضي الجسد بعضلاته المشدودة كان يحمل كيس الطحين وزن مئة كيلو تحت إبطه كما لو كان يحمل كيسا بوزن خمسة كيلو... يرميه في المعجن ثم يعجنه بالماء والخميرة وهو يغني مواويل فرحه..
كان عبد الحميد عندما ينتهي من العجين يضع كرسيا على رصيف الفرن ويجلس عليه متأملا المارة بأشكالهم المختلفة وذات يوم سحرته نظرة عابرة من فتاة جامعية كانت تمر مرورا شبه يومي من أمام الفرن إما ذاهبة إلى الجامعة أو آيبة. لم ينس تلك النظرة التي ربما لم تقصده بها تلك الفتاة الجميلة ولكنها رسخت في اعماقه لتصبح جزءا من روحه. ومع مرور الأيام, أصبحت هذه الفتاة تعني لعبد الحميد كل شيء صارت حياته كلها دون ان تدري هي ما فعل الجمر بهذا القلب التواق الى الحب.الحب المحروم منه بحكم اندماجه بذلك العمل المضني في فرن الكعك أصبحت حلمه الوحيد.. يترقب مرورها كما يترقب الطيرحبة القمح.
وذات يوم انتبه عبد الحميد إلى أن تلك الفتاة تعلق على جيدها سلسالا فيه صليب فضي, فأدرك أن الفتاة من غير دينه , لم يهمه ذلك فالحب لايعترف بالطوائف والاديان.
وفي شهر رمضان وتبريكا له يصنع فرن والدي خبزا من خميرة الكعك لا من خميرة الخبز اسمه المعروك يباع طازجا في شهر رمضان وتزين به موائد الناس وذات يوم لحق عبد الحميد بالفتاة وهي عائدة من الجامعة وعرف أين يقع بيتها وفي اي شارع وفي اليوم التالي صنع رغيفا كبيرا من المعروك زينه بالسمسم ورسم بحبة البركة السوداء صليبا في وسطه.. تأمله جيدا حتى دمعت عيناه واعتبره بمثابه باقة ورد لفه بطبق من الورق الشفاف وحمله بين يديه وذهب إلى بيت الفتاة ليقدمه لها.. وتصور انها ستقبله وتكرم وفادته وتدعوه لشرب كأس شاي في منزلها وكان في طريقه إلى منزلها يحدث نفسه أحاديث شتى ويحلم بالمستقبل وان تكون هذه الفتاة ربة بيته وأم اولاده.. كان يصطدم بالناس واعمدة الكهرباء لشدة شروده.. اذ كان في عالم والناس في عالم آخر.
وصل عبد الحميد الى منزل الفتاة فرجف قلبه رجفا شديدا وقبل أن يضع سبابته على الجرس تردد ترددا شديدا.. ماذا لو رفضت هديته الطيبة..? وتخيل أن الفتاة لن تخذله.. انه يقدم لها رغيفا مقدسا وطيبا يشبه إلى حدكبير رغيف المسيح الذي وحده سد جوع حواريه واكتفوا به عشاء مقدسا أصبح رمزا لايمحى أبد الدهر.
تشجع عبد الحميد أخيرا ودق جرس الباب وما ان فتح الباب حتى وجد نفسه وجها لوجه أمام الفتاة التي أحبها حتى الطفاف دون ان تعرف بل دون ان يخطر ببالها ان الذي يقف أمامها وبين يديه رغيف المعروك يموت عشقا بها.
نظرت اليه مستغربة من أنت?
نلعثم عبد الحميد وجد نفسه في موقف ما حسب له حسابا لم ينبس بكلمة.. شعر ان كل الكلمات التي اختزنها في أعماقه على مدى شهور ليبوح بها, خذلته وخانته فهربت من ذاكرته ولم تسعفه ولو بكلمة واحدة.
لم يفعل عبد الحميد آنذاك سوى أن قدم لها رغيف المعروك هامسا أنه اشتهاه لها. وكم كانت المفأجاة رهيبة عندما تناولت الفتاة رغيف المعروك من يديه ثم صفعته به على وجهه صفعة قوية واغلقت في وجهه الباب.
عقدت الدهشة لسان عبد الحميد, ظل متسمرا في مكانه لايعرف ماذا يفعل مسح وجهه براحته ليزيل ما علق به من حب البركة.. ثم انه انحنى والتقط رغيف المعروك من الارض وتراجع خطوات إلى الوراء.. ثم ولى هاربا.. والتقى بشيخ مسن يمد يده للناس فألقى له بالرغيف وانسحب مهزوما نحو الفرن.
كنت جالسا على الدف الذي نصنع عليه الكعك عندما دخل علينا عبد الحميد مصفر الوجه تعبا كئيبا حزينا كأنه كان في جنازة أمه أو أبيه.
ارتمى على اكياس الطحين ثم اشعل سيكارة وانتبهت ان كل شيء فيه ينهار كما لو أن جبلا ضربه زلزال شديد احسست وانا انظر اليه خفية أن ثمة حدثا خطيرا يعاني منه, أو صدمة كسرت خاطره وكبرياءه. فما إن سألته عن حاله حتى انهار وشرع في بكاء شديد لم نره فيه حتى يوم توفيت أمه.
في ذلك الوقت دخل أبي إلى الفرن فانتبه إلى الوجوم الذي ركبنا جميعا فسألنا شوفي لم نحر جوابا, واراد عبد الحميد خجلا من أبي ان يكفكف دموعه.. فالتفت ابي نحوه وسأله : أتبكي?! فروى عبد الحميد ما حصل معه, حتى انه تمنى لو سقط ميتا على باب تلك الحبيبة الجامدة.. التي كسرت أحلام عبد الحميد دون ان يكون لها ذنب في الموضوع فهي غافلة تماما عما حصل.
طيب أبي من خاطر عبد الحميد ومرح معه قائلا: والله سأخطب لك أجمل بنت في الشام ولم يكن أبي يدرك أن الموضوع ليس في خطوبة أجمل بنت بالشام بل الخيبة والاحباط والتمنيات والاحلام التي انكسرت في لحظة صفع تلك الفتاة برغيف المعروك وجه عبد الحميد.
أراد ابي ان يغير الجو الكئيب الذي سيطر علينا جميعا نحن العمال رفاق عبد الحميد, فصاح به: هيا قم ياعبد الحميد جاء وقت الشغل.. فقام عبد الحميد متثاقلا وحمل كيسا من الطحين وافرغه في المعجن ثم أضاف بضعة سطول من الماء فوق الطحين.
ريثما يهيئ أبي خميرة الكعك التي تصنع عادة من خميرة الحمص وليس من خميرة البيرة التي يصنع بها الخبز اذ يغلي الماء إلى اعلى درجة ثم يوضع في كأس له عنق طويل ويضاف فوقه بضع حبات من الحمص وقليل من الملح.. ثم يركن الكأس تحت علبة كبيرة من الخشب ثم يوضع عليها بضعة اكياس فارغة ليحافظ على دفئه لمدة اربع وعشرين ساعة فاذا تشكلت بعد ذلك تلك الرغوة البيضاء فوق عنق الكأس.. فهذا يعني ان الخميرة قد اخذت مداها واصبحت ناجحة في إنتاج كعك طيب.
وهنا تقدم أبي بالخميرة ورماها فوق العجين وطلب من عبد الحميد أن يشرع في اعداد العجينة بالضغط عليها بأصابعه القوية وقبضتيه حتى تختلط الخميرة جيدا بالعجين.
كان عبد الحميد منحنيا على المعجن يعمل شغله ولم ننتبه للوهلة الأولى, ان عبد الحميد توقف عن عجن العجين.. ثم انتبه أبي له. فصاح به: يا الله.. عبد الحميد.. شد حيلك نريد أن نشتغل..
لكن عبد الحميد ظل منحنيا, فوق العجين لايتحرك.. صاح ابي به مرة ثانية:
يالله .. عبد الحميد.. تأخرنا
لكن عبد الحميد لم يرد.. وظل ساكنا في مكانه. اقتربت منه فانتبهت ان أصابعه كلها مغروسة في العجين ودون أي حركة منه.. هززته.. هززته مرات.. لم يتحرك عبد الحميد.. فصرخت فزعا على أبي الذي تقدم من عبد الحميد مزعورا.. وأخذ يهزه: عبد الحميد.. عبد الحميد.. لكن عبد الحميد كان قد أسلم الروح.. كان عبد الحميد قد مات.
نتبع الاربعاء المقبل
المرأة التي جعلت أديب حطاماً
_________________
لكلام الحب بقية
اوتار