الحب هو الذي يرنو إلى الحياة بعين التفاؤل.. لا شيء يجمل الحياة إلا الحب, إنه يجعل العاشق يرنو إلى الحقول الخضراء, أو البحار الزرق, أو الجبال المكسوة بالشجر.
______________________________
انه وحده يجعله يطيل التحديق في هذه الحياة ويتمعن فيها أكثر فأكثر, ولا يستطيع لحظة أن يكف عن رؤيتها وعبثاً ما كان يضرب نطاقاً حول عينيه ليمنعهما من الوقوع على شيء آخر غير الزهور, فإن الحبيبة إن لم تكن تعطيه أي تفسير أو تعينه على استجلاء العاطفة الغامضة التي تبعثها فيه, والتي لا يستطيع أن يسأل وروداً أخرى أن تمنحه ايضاحاً عنها, أو تلقي نوراً على معمياتها.
وهكذا, يعجز العاشق, رغم كل جهوده عن اكتشاف السر الذي تخبئه الحبيبة وراء مظهرها الخارجي, والذي تدعوه إلى سبر اغواره, والمكوث أمامها جامداً, ينظر إلى وجهها الجميل, ويحاول أن يمضي بفكره إلى ما وراء الصورة والتعبير الخفي وراء نظراتها.
وأحياناً يجبن العاشق عن البوح, فتنقلب الآية المشرعة على الأمل.. إلى خيبة قاتلة, فيطبق العاشق جفونه, ليستحضر في ذهنه ملامح وجه الحبيبة المتألق في ذاكرته والذي يثير فيه الفرح, كلما ازداد به تأملاً تبدو له الحبيبة ممتلئة بالحب الساحر, فتفضي به إلى تلك الجوهرة المكنونة في داخلها التي لم تكن سوى غطاء لها.أحياناً تلعب المرأة بعواطف الرجل فارضة على وجدانه عبئاً مرهقاً, غير عابئة بما يؤول به الأمر, هو المسكين المتعلق بأذيال التجربة العميقة, أن يكتشف وراء الشكل والرائحة واللون لغز السعادة التي يظن أنها تخبئها له..ولكن يكتشف أنه كان مجرد ألعوبة بين يديها.. فتفقده عقله..
حدث هذا مع (أبو عرب) أحد قبضايات حي العقيبة, الحي الذي نشأت فيه.. كان صاحب محل لبيع الفاكهة بأنواعها, وكان صاحب ذوق, هوايته العزف على الناي, بشكل فطري, هو عزف من عمق روحه, فكان أجمل من أي نوطة موسيقية.
كانت روحه الموسيقية تنعكس على الفاكهة, فكان يرونقها بشكل جميل, ويرسم في سحاحيرها اشكالاً تشبه باقات الورد..وغالباً ما يرسم بالفاكهة قلباً , أو وجهاً, أو قمراً وشمساً..
فأصبح محله تحفة فنية, حتى يكاد أحياناً لا يسمح لأحد أن يمس هذا الشكل أو ذاك, لأن بقية الفاكهة موجودة داخل المحل بنفس الجودة.
وذات يوم انتبه إلى زبونة في العشرين من عمرها تتردد على دكانه, تشتري تفاحاً أو عنباً أو كرزاً.. أذهله جمالها, ويوماً بعد يوم أصبح يشتاق لها إذا لم تمر من أمام دكانه..
ثم أخذ يراعيها في أثمان الفاكهة, وبعد ذلك أصبح يخسر في الثمن من أجل أن يرضيها, إلى أن بات يقدم لها الفاكهة دون أن يتقاضى ثمنها.. كانت خبيثة إلى حد راحت تستغل سذاجته.. كانت توحي له أنها معجبة جداً بعزفه على الناي, وأحياناً تلمح له على وسامته التي يجب عليه أن يظهرها بالتخلي عن مظهر القبضاي ليدخل الحياة الحديثة..
أول كل شيء اقترحت عليه أن يغير اسمه من (أبي عرب) إلى (أبي حسان) لأنه أكثر حداثة, بل اقترحت عليه أن يتخلى عن لقب (أبو) مكتفياً باسم (السيد أديب) طلبت منه أن يطيل شعره ويشذب شاربيه ويتخلى عن عقفهما إلى أعلى..طلبت منه أن يتخلى عن الزي الشعبي الذي اعتاد ارتداءه.. ويرتدي بدلة حديثة وقميصاً أبيض وربطة عنق..
ومع أن كل ذلك لم يكن يناسب عمله كبائع فاكهة, لكنه كان ينفذ كل طلباتها دون أدنى تردد.
أصبح السيد أديب شخصاً آخر, وصار يحرص أشد الحرص على نظافة الدكان, وعلى تزيينها بباقات الورد, وكان يحلو لها أن تقف طويلاً داخل الدكان لتسمعه يعزف على الناي..هذه القصبة التي لا يليق بها إلا الحزن, فكان يجهد بتأليف اللحن الذي كانت تشيد به: الله.. الله.. ما أجمل عزفك يا أديب.
طار من الفرح عندما لفظت, أخيراً اسمه مجرداً..وبدأ يحلم.. ما الفرق.. هو في الثلاثين, وهي في العشرين تجارته بالفاكهة رابحة, بيته ملك اسرته, ويمكن له أن يأخذ منه غرفتين واحدة للنوم وأخرى للجلوس..
البيت عربي في هندسته وفيه أكثر من عشر غرف وفسحة سماوية ملأى بأصص الزهور وشجر الكباد والليمون.. وستكون سعيدة مع أسرته, ويدللها ويجعلها أغلى من عينيه.
كانت الفتاة تشبه إلى حد كبير ممثلة السينما المصرية ليلى فوزي, وقال لها -مرة- ذلك, فزهت وتشاوفت, خصوصاً عندما قال لها: بل أنت أجمل.
كان بين الحين والآخر يرسل إلى منزل أهلها القريب سحارة تفاح, أو رهطاً من الموز, أو خمسة كيلوات من العنب, دون أن يتقاضى ثمناً لها, وصار يفكر بها كثيراً بأنها عروس المستقبل, وكانت لخبثها المتزايد تشعره باهتمامها به.
فصار, هذه المرة يهديها أغلى أنواع العطور, واشترى لها مرة (اسوارة) يقولون عنها (مبرومة) من الذهب الخالص وكانت تضعها في رسغها متباهية بها أمام الجميع..
أصبحت (وكان اسمها لمياء) شغل شاغل اديب, صارت كل حياته, وصار إذا غابت يوماً من المرور من أمام دكانه يقلق أشد القلق.
وينعكس ذلك بعزفه الحزين على الناي وإذا ما رآها تطل عليه من رأس الحي يزغرد قلبه وينفتح أمام عينيه الأفق على مداه.. أصبحت سعادته وفرحه وآماله واحلامه ومستقبله كله..بينما كانت هي في شغل آخر, وما كان السيد اديب إلا اضحوكتها الكبرى.
وانتبه إلى ذلك عندما صارت تصطحب صديقاتها لتعرفهن عليه.. كان يلمح في عيون هؤلاء الصديقات ما يشبه السخرية منه.. فدب في قلبه رعب كبير.. ماذا لو كانت لمياء تضحك عليه?
أراد أن يسألها فجبن.. أراد أن يبوح في حبه فخاف..أراد أن يوحي لها أنها أصبحت كل حياته فتردد.. فنهض به كبرياء القبضاي, واستعاد اصالته القديمة واعتزازه بنفسه.
وفي سرعة من الخواطر اكتشف ما الذي فعلته به هذه الفتاة اللعوب.. إذ جعلت منه أقرب من الافندي المخنث بعد أن جردته من مظاهر رجولته.. وراح يتساءل إن كان يبالغ بأفكاره, وأن هذه الهواجس التي صارت تعكر عليه نهاره وليله ما هي إلا اضغاث..وإن الحقيقة, لابد أن تظهر ذات يوم.. فهو قدم لها كل شيء.. لم يبخل عليها بشيء أبداً, وكان كخاتم في بنصرها: اطلب.. تعط..
وذات ليلة.. حدث مالم يكن متوقعاً..
مرت (عراضة) عرس من أمام محله.. والاهازيج تملأ المكان (عريس الزين يتهنا.. يطلب علي ويتمنى).
في البداية لم يهمه الأمر.. ثم سرعان ما استدرك.. فسأل شخصاً قريباً له: من العروس? فقال له ساخراً: إنها ليلى فوزي.. أي (لمياء).
أسقط في يد السيد اديب أو أبو عرب أو أبو حسان أو عازف الناي.. ظل محدقاً في الفراغ دقائق طويلة لم يعرف ماذا يفعل? أحس أن قلبه يبكي.. بل في الحقيقة, طفرت الدموع من عينيه.. هل كان كل هذا الوقت يحلم.. فبئست الاحلام التي تحولت فجأة إلى كابوس..
وفجأة.. ركب السيد اديب جنون مفاجىء, فصار يلقي بالفاكهة إلى عرض الطريق.. رفس بقدمه كل سحاحير التفاح والخوخ والعنب.. ثم راح يدوسها بقدميه..حاول جيرانه تهدئته, فلم يأبه.. ثم اغلق الدكان.. وانسحب من الحي يجر اذيال الخيبة وشعور طاغ بالدمار والسقوط في هاوية لا قعر لها..
وبعد بضعة أيام, هجر السيد اديب حي العقيبة واستأجر بستاناً في الغوطة, واشاد حوله سوراًً عالياً واغلق عليه بابه في عزلة شديدة.
وكنت كلما عدت إلى دمشق اذهب لزيارته, وقبل أن أدق باب البستان يتنامى إلي عزفه الحزين على الناي.. وفي غرفته الرئيسية علق على الجدران صوراً للممثلة المصرية ليلى فوزي التي كانت تشبه إلى حد كبير لمياء..
وفي شبابنا رويت للاديبة زميلتي في القصر الجمهوري وقتذاك عام 1960 غادة السمان قصة اديب وقصة حبه الفاجع فأحبت أن تتعرف عليه.
وذهبنا لزيارته, فوجدنا فيه رجلاً محطماً يغتصب ابتساماته ليرحب بضيوفه.. زارت غادة (معرض صور ليلى فوزي) أي الغرفة التي انتشرت عليها صور الممثلة الفاتنة التي كانت طبق الأصل عن لمياء..التي لم تسأل عنه فيما بعد..
وكانت تمر -حسبما كان يردد ابناء الحي- دون أن تلتفت نحو دكان أبو عرب المغلق ولم تكلف نفسها.. أن تسأل أين هو.. وأين أصبح.. وإلى أي مكان ترك الحي..
كرهت تلك الفتاة.. ولم أزل اكرهها..
ظلت عزلة السيد أديب زمناً طويلاً, لأكثر من خمسين سنة لم يغادر بستانه قط..ومنذ أشهر عدت إلى دمشق.. وذهبت لزيارته في بستانه.. وفوجئت بورقة نعية على باب البستان.. بكيت طويلاً.. قبل أن أقبل باب البستان ومضيت في حال سبيلي حزيناً متعباً.. ولحن الناي الحزين يتلبس روحي.. كأنني اسمعه الآن وأنا على هذا البعد وذكريات الرجل تتبعني حيثما مشيت فيزداد حزني.. ويكبر أساي
_________________
الملم الطوفان من أكواخ الذاكرة
شجراً ينزف دماً ووجهك لا يفيق
تلك أصابعي تشتعل شموعاً وتذوب
وها ندوب قلبي تتفتح للريح والنار ولا وجهك يجيء
إنني أموت ساعة بعد ساعة
وشعرك يتطاير وراء السفوح والتلال
آه.. فلا ثمرة تصل الفم.. ولا قطرة ماء تسكن الشفاه
أرمل الشمس أنا واختناق الغريق
فوراء فسحة عينيك أستيقظ من الوجد والخوف
واتغلّف بالجموح النادر
وسوّسة النحل داخل تجاويف الأذن وتحت رحيق العذاب
استيقظ شيخوخة ولا عصا تحت يدي
___________
منقووووول
__________
كل ما تذكرت هذه القصة اتالم كثيرا كثيرا على حب هذه الايام
أوتار