العلم لا يعترف إلا بلغة العقل, واحد زائد واحد: اثنان لكن لغة القلب تختلف, فمحتمل أن واحداً زائداً واحداً يمكن أن يكون عشرة أو عشرين. لغة القلب لا تعترف بالزمن. على أن الاثنين يتلازمان في أكثر الأحيان:
القلب والعقل, ويمكن الانتقال بينهما بسهولة تماماً كما تدخل إلى المنزل من الخارج. إذ يجب أن يتحرك المرء برشاقة بين عقله وقلبه, هذان هما ضفة النهر الذي هو أنت أو أنا أو الآخر. ويجب ألا نستقر على إحدى الضفتين دون الأخرى.. وإلا فقدنا توازن الحياة.
ومن حيث صفة كل منهما, فلا تستطيع إشراك قلبك في كل شؤون حياتك.. كما أن منطق العقل يستعبدك أحياناً وهو يصبح السيد المطلق هنا, لا ينتج إلا القلق, إن استبداد العقل مثل استبداد الحاكم الديكتاتوري, لا يمدك بالطمأنينة, يأتيك بمشاكل لا تنتهي, وليس دائماً قادراً على حل مشاكلك. بتضافر لغة القلب مع لغة العقل يمكن الوصول إلى الحلول المرضية. قد توحي لك أن لغة العقل ترشدك إلى المكان الصحيح وتدلك على التخلص من المآزق الحرجة.
في الحقيقة لا يملك العقل القدرة على كل ذلك. بل يدعي تلك المقدرة, ويعد بها, ويقول لك, دائماً: سأقدم لك الأفضل, لكنه لا يفي بوعده أبداً. وتتراكم المشاكل ولا تعرف كيف تتخلص منها, لأنك لا تعرف كيف تخرج من الرأس. لا تعرف كيف تلعب مع الأطفال, كيف تحب حبيبتك, كيف تخاطب الناس من حولك وبسيطرة العقل المستبد يتوارى القلب, تتوارى الأحاسيس, تتوارى العواطف.. وهي أشياء من أساسيات القلب, الذي يساعدك وحده على التأمل.. على مخاطبة أمواج البحر, مخاطبة الأشجار في الغابة, أو النجوم في كثير من الأحيان. في الحقيقة, في استبداد العقل, تنسى كل تلك الأشياء, المشاعر التي في داخلك. القلب الذي ينبض في الحياة.
يقول المتصوف الهندي أوشو: (عندما تكبح جماح أي عضو من أعضاء جسمك, سينتقم لنفسه عاجلاً أم آجلاً. وكذلك هو الأمر مع أي جزء من العقل, القلب هو العضو الأكثر حيوية في الجسم, إنه دينامو الجسم. إذ بوسع المرء أن يعيش بدون رأس, لكنه لا يستطيع أن يعيش بدون قلب, فالرأس سطحي نوعاً ما, إنه شكل من أشكال الترف, لكن القلب عماد الجسم الأساسي, فالعقل حكر على الإنسان, لذلك لا يمكن أن يكون العماد الأساسي للحياة, فالحيوانات تعيش بدونه, وتعيش حياة غير منقوصة, حياة هادئة وسعيدة أكثر من الإنسان, والأشجار أيضاً تعيش بدون رأس وكذلك الطيور والأولاد).
قد يقول قائل: العقل أقوى.. عندما تفكر جيداً فلا تقع في الخطأ.. لكن القلب العاطفي كثيراً ما يوقعك بالأخطاء, وأحياناً أخطاء مميتة, مثل أن تعشق امرأة فينعمي على قلبك.. أي بوضوح عشق امرأة لا تستحق حبك توديك إلى المهالك.. وهنا يتدخل العقل ليخرجك من هذه الطامة الكبرى, القلب إزاء الحب ضعيف, يخفق بغير ما يجب أن يخفق, ويتصرف بغير ما يجب أن يتصرف.. من هنا فإن اتحاد العقل بالقلب في أمور من هذا النوع يصبح واجباً لئلا تتخلخل حياتك.
وإن اخترت القلب ونسيت العقل تماماً, ستجن. لكن إن اضطررت إلى الاختيار, فمن الأفضل أن تختار القلب لأنه الأساس.
لا أقول هنا بضرورة الاختيار, لكن إن ألححت وقلت: يجب أن أختار فاختر الجنون.. الجنون الذي يحررك من مكابدات الحياة.. ليس ذلك الجنون الذي يقودك إلى المستشفى.. بل الجنون الفني إن صح التعبير.. من المألوف إلى اللامألوف.. من العادي إلى الابداع, الشعر, الموسيقا, الكتابة.. هذه هي أهداف القلب الذي يحررك من العادي والحياة الموضوعية في الشغل ومحاكاة الناس. القلب, جنون القلب, أن تحب, وترقص بجنون هذا أفضل بكثير من أن تصبح حذراً, منطقياً, عقلانياً, وتعاني من الكوابيس.
يجب أن يكون أي اختيار واعياً ومندمجاً بالقلب والعقل, إن عدم الاختيار الواعي هو الكلمة المفتاح, أي - كما يقول أوشو - اختر اللااختيار الواعي, وكلما رأيت أمراً ما يخرج من توازنه حل إلى الجهة الأخرى.. استعد التوازن ثانية, فهكذا يتحرك المرء, لأن الحياة حبل بهلوان.
قال أفلاطون أحد أشهر الفلاسفة عن الجمهورية الفاضلة, أو اليوتوبيا التي كان يحلم ببنائها إنه لن يسمح للشعراء أن يدخلوا إليها أو يعيشوا فيها, لأنه كان يخافهم, يقول: إنهم يجلبون الأوهام والفوضى ونحن بغنى عنها دائماً, وإن العقل سيجعل الناس عصابيين, فإذا قامت جمهورية أفلاطون الفاضلة, والخوف كل الخوف من قيامها سيكون كل أفرادها عصابيين, وسيحمل كل منهم طبيبه النفسي معه.. أينما ذهب, وهذا هو مآل الغرب الآن.
يظن الغرب أنه بنى لدولة اليوتوبيا, المدينة الفاضلة, قد تبدو من خارج الصورة هي هكذا.. لكنها في الحقيقة على العكس تماماً.. الغربيون عقليون وأزاحوا القلب جانباً, إنهم غير عاطفيين, الأرقام هي حياتهم.. ويعتبرون أي عاشق مجنوناً.. لماذا الحب طالما المرأة متوفرة للرجل في أي لحظة.. لم يفهموا أبداً أن يولع رجل بامرأة أو العكس.. انظر كيف فعلوا بالأميرة ديانا عندما أحبت حباً حقيقياً متمردة على الإمارة والعائلة المالكة لتحب رجلاً عربياً.. تآمروا عليهما وقتلوهما معاً.. كل الدلائل كانت تدل على أن مقتلهما جريمة.. ماذا لو حبلت من حبيبها المسلم وجاء منها أخ مسلم لولي العهد المسيحي. هنا كان العقل مستبداً إلى آخر حدود الاستبداد, وكان بطاشاً قاتلاً بكل معنى الجريمة في القتل.. لو كان متاحاً للقلب أن يقف حجر عثرة أمام هذه النهاية البائسة.. لما حصل الذي حصل.. ما الذي يغير في العالم إن كان لولي عهد بريطانيا المسيحي أخ مسلم?!
لكن الغرب العقلاني من جهة أخرى سخر العقل للأعمال الشيطانية وعزل وظيفة القلب تماماً, لم يترك له وظيفة غير ضخ الدم لئلا تعتل صحتهم. ذهبوا إلى أبعد ما يمكن من استبداد العقل في احتلال أوطان الآخرين والتصرف بممتلكاتهم وأموالهم وأراضيهم وبترولهم.. وكل كنوزهم حتى آثارهم.
استبداد العقل الغربي شكل مآسي لا حصر لها للشعوب المستضعفة, والفقراء, والمساكين في أنحاء العالم, خصوصاً في بلاد المسلمين, وما كان مقتل دودي الفايد المسلم لمنعه عن ديانا المسيحية إلا صورة مصغرة عما كان يبيت لنا, كانوا يريدون قتله وحده, لكن كيدهم انعكس عليهم فقتلوهما معاً, ليسطر التاريخ أجمل قصة حب في القرن العشرين وأكبر مأساة أين منها مآسي الحب القديمة في تراثنا أو تراثهم.
أظن أن أفكاري شطحت إلى مظان مختلفة, لكنها كلها مترابطة بعضها مع بعض, وفي المحصلة أن القلب والعقل جزءان من جسم واحد.. لا يستغني أحدهما عن الآخر. إنما يجب أن نعرف كيف نستخدمهما جيداً إما لمصلحة الفرد أو مصلحة المجموع, إنهما, معاً, وباختصار, عصب الحياة وبدونهما لا تقوم لها قائمة.
مقال من صحيفة سورية للكاتب ياسين رفاعية
اسف على الاطالة